الطريق إلى معمل الكاكاو .
حين أخبرت السائق في أول يوم لي في الجزيرة عن رغبتي بزيارة مصنع الكاكاو، قال أن الإيطالي صاحب المعمل لا يسمح بدخول أحد إلا يوم الخميس، ونحن في يوم السبت والوقت متأخر، وغداً الأحد إجازة، فقلت سأذهب إليه الاثنين وأتفاوض معه على الدخول، فرد السائق: أنت لا تعرف الإيطالي، هو إنسان صعب، والتعامل معه صعب، في حياتي كلها لم أرَ المعمل إلا من الخارج، وبعد أن أصررت عليه قال ممتعضاً: سأذهب بك وأنت تتولى الأمر.
وصلت المعمل، فإذا هو منزل جميل، ولفتت نظري اللوحة التي تشير إلى وجود كلب بالداخل.
أول ما وقفت على الباب رأيت إيطاليان ينتقلان من مبنى إلى آخر، ناديتهما بصوت عالٍ فلم يسمعان، فاضطررت للبقاء على الباب فترة طويلة، حتى جائت مجموعة من النساء المحليات العاملات وهن يهممن بالدخول، فأخبرتهن برغبتي في التحدث مع المالك، فنظرت إلي إحداهن شزراً ولم تعدني خيراً، ثم طال بي البقاء حتى أوشكت على الانصراف، ثم أقبل الإيطالي فحييته وسلمت عليه فأحسن رد السلام، فقلت له أنا من السعودية وغداً أسافر، وسمعت أن عندك أفضل شوكولاته في العالم (قلتها مجاملة ثم اكتشفت أنها الحقيقة) وأحب أن أعود لأهلي ببعضٍ منها، فأطرق قليلاً ثم قال: انتظر خمس دقائق حتى أحبس الكلبين (لم تكن اللوحة السابقة مجرد مزحة أبداً) فذهب ناحية، ورأيته يسوق كلبين عظيمين، لم أرَ مثلهما صياحاً ولا شراسة! وبقيت أتخيل ماذا لو تجاوزت الباب، وعليه مزلاج بالأعلى كان العمال يرفعونه ويدخلون، ودخلت بنفسي لأطرق الغرفة التي دخلها الإيطاليان؟! .. الحمد لله الذي سلمني منهما.
دخلت المعمل فإذا العمّال فيه أفارقة بلباس أبيض، كأنهم الرهبان، يعملون بصمت ولا يتحدثون، حجرات المعمل متوسطة المساحة ذات أرضية خشبية، غاية في النظافة والهدوء وجودة التهوية، استطعت تصوير أجزاء يسيرة منه حتى لا يتضايق الإيطالي، والبقية منها واضحة في أحد مقاطع اليوتيوب الذي سأرفقه لاحقاً.
حصل لي موقف محرج جداً حين حاولت المفاوضة في السعر الذي وجدته مرتفعاً جداً، فقلت للإيطالي وأنا أتبسم: راعني في السعر وسأعمل لك دعاية وأنشر هذه الصور في النت ويعرفك الناس عندنا، فالتفت إلي مسرعاً وأخذني إلى أحد الرفوف في زاوية المعمل وأخرج منه هذه المجلة :
وقال: في هذا العدد من ناشيونال قرافيك 24 صفحة عني!
لست بحاجة إلى دعايتك
وقفت أتصور معه وأقول أنت رجل مشهور وكذا وكذا (أحاول أرقعها وهي مستحيل تترقع)
واضح الإحراج أصلاً في الصورة .. عشان ما أتفلسف مرة ثانية
بدأ الإيطالي يعاملني معاملة جيدة، وبتجول بي في مرافق المعمل، ويحدثني عن مجده وشهرته بين عشاق الشوكولاته، وعن ما يكتب عنه، وعن زبائنه النخبويين في فرنسا وإيطاليا وبقية أوربا، وأخذ يُطلعني على الشحنات الجاهزة للتصدير، ويذيقني من الأصناف الأخرى (يوجد أصناف أخرى لذيذة ومحشوة بالقهوة والبرتقال أو الزنجبيل ولكن لم استطع الأخذ للأسباب التي ذكرتها، ولأني رغبت في إهداء هذه الأصناف الطبيعية كما هي للأهل والأقارب)
اشتريت منه -بكل ما بقي معي من نقد بالدولار واليورو- ما تيسّر لي من صفائح الكاكاو الصافي 100% ليس عليها أي إضافة أخرى، بالإضافة إلى مجموعة من البذور المحمصة التي بقيت على هيئتها في الثمرة دون سحق، ولم أستطع إلا على اليسير بسبب محدودية الأوراق النقدية معي، وعدم إمكانية الشراء بالفيزا (هذه مشكلة في الدولة كلها، وكما ذكرت سابقاً أنها غير مرتبطة بالبنوك العالمية وبطقة الصراف والفيزا عديمة الجدوى في أي مكان هنا) وكان السعر مرتفعاً جداً رغم انها تباع بنصف السعر المعروض على موقعه، وقد قابلت في تلك الليلة رجل أعمال لبناني بمقهى الفندق، وهو من سكان الجزيرة، ودار الحديث عن مشاهداتي، وانضم عمه إلينا، فأخبرني أن الكيلو من كاكاو هذا المصنع الصافي يُباع بـ 1000 ريال على بعض الوجهاء والفنادق ومن يعرف قيمة منتوجات هذا الإيطالي (حصلت على الكيلو بحوالي 350 ريال بدون ضرائب)، وأكمل اللبناني بأن هذه الشوكولاته هي رقم واحد في العالم دون مبالغة، وتسائلت بعد سماع هذا، وتذوقي ورؤيتي للكمية المحدودة في خط الانتاج، عن نوعية الكاكاو في باتشي ونوتيلا وجلاكسي وغيره من المنتوجات عندنا، والتي هي في الحقيقة دهون بنية بنكهة الكاكاو مع كميات سكر كبيرة.
الإيطالي "كلاوديو" وهو يجهز الطلب
الطلب بعد تغليفه وتجهيزه .. وهذه الكمية على قِلتها سببت لي مشاكل كثيرة مع سلطات المطار، التي أرادت أن تصادرها، وأن أكتفي بما أحمله في يدي دون شحن، وسأذكر قصة ما حصل لي بالتفصيل أثناء الكلام عن أحداث المغادرة.
أعطاني هذا الكرت ثم رافقني للخارج وودعني، ووقف ينتظرني ويشير بيديه حتى غادرت السيارة المكان.